
في حركة تصاعدية، تسير التحركات الاحتجاجية في طرابلس اللبنانية، منذرةً بعودة الصدامات إلى الشارع. لم تأتِ عودة الناس إلى الاحتجاج من عدم، ولم تكُن غير متوقعة.
فمنذ فترة، ساد شعور في لبنان أن البلاد قد تنحدر إلى موجة عنف جديدة وواسعة النطاق. ظنّ البعض أن رفع الدعم هو ما سيفجر الشارع، فإذا بها تندلع في الوقت الضائع بين فراغين، وفي لحظة استعرت فيها الخلافات السياسية بين التيارين الشريكين في التسوية الرئاسية أي العوني والمستقبل.
استعادت طرابلس مع هذه الاحتجاجات حيزها الخاص في التغطية الإعلامية، إلا أن الخوف يبقى قائماً لما يتم ترتيبه لهذه المدينة التي أُلصقت بها في يوم من الأيام صفة “قندهار”، وتحولت إلى صندوق بريد لتصفية حسابات المحاور الإقليمية إبان الصدامات الأهلية بين جبل محسن وباب التبانة.
وفي مواجهات مساء اليوم الأربعاء، أفاد الصليب الأحمر اللبناني عن سقوط 23 جريحاً، فيما أكد الجيش في بيان أن عدد الإصابات بين العناصر العسكرية بلغ 31 جريحاً، فيما أوقف 5 أشخاص.
الجيش يتدخل
خلال الأيام الماضية، اعتمد الجيش اللبناني سياسة الاحتواء، وعدم التصادم مع المحتجين إلا في الحالات القصوى. وكان يدفعهم باستمرار نحو الأحياء الداخلية. وفي جولة ميدانية داخل الأحياء التي شهدت اشتباكات، تظهر آثار الصدامات، من مقذوفات القنابل الدخانية، إلى آثار ناقلات الجند، وأكوام الحجارة، وبقايا الإطارات المحترقة.
تؤكد مصادر عسكرية لـ “اندبندنت عربية” أنه من المبكر الحديث عن طبيعة الحراك في طرابلس، وأن المؤسسة العسكرية تنتظر تطوّر الأوضاع لتبني موقفها. وتشير المصادر إلى أنها تتعامل مع التحركات من مبدأ “حسن النية، وأنها عفوية مع وجود مشاغبين بين المتظاهرين”.
ساحات الأكشن
ليلة ثالثة من “الأكشن” تعيشها مدينة طرابلس عاصمة لبنان الشمالي، فما إن يحل المساء حتى تبدأ المناوشات بين القوى الأمنية والشبان الذين تجمعوا من كل حدب وصوب.
في ساحة الاشتباكات يغلب حضور الشبان الذكور، مطعمين بعدد كبير من الأطفال الذين نضجوا قبل حينهم. ويركز الشبان جام غضبهم على السرايا التي تتضمن مراكز المؤسسات الحكومية في المدينة.
وفي ما يشبه لعبة “التنس” يتبادل اللاعبون المقذوفات، من هنا يُطلق الشبان حجارتهم، فيما تُركز القوى الأمنية المتمثلة بالجيش جهودها على دفع المحتجين نحو قلب المدينة وتشتيت تجمعاتهم.
خلال الليالي الماضية، استخدمت قوى “مكافحة الشغب” مزيجاً من الرصاص المطاطي، والقنابل المسيّلة للدموع التي ملأ دُخانها الشوارع الداخلية المتفرعة من ساحة النور. فيما عمد الشبان إلى إشعال الإطارات، وتحطيم بعض الأشجار، وحجارة الأرصفة.
فقير بمواجهة فقير
من بين الصور التي تلفت النظر في الاحتجاجات العنيفة، تلك الصرخات التي ترتفع بها حناجر بعض الشبان المحتجين. يُطالب أحدهم العسكر بعدم مواجهة إخوانهم، وأهلهم لأن “راتب العسكري لا يكفيه لتأمين احتياجاته الأساسية”، وكذلك “العسكري الفقير يحمي سارقه”.
في المقابل، يتحفظ تيار عريض من أهالي المدينة على الصدامات بين الجيش والمحتجين، لأنهم ينظرون إلى المؤسسة العسكرية كملاذ أخير للأمن في البلاد.
ولا يتوانى البعض عن التعبير عن ذلك، إذ يؤكد أبو جهاد النمري، “أنا ثائر، ولكنني أرفض الصدامات مع الجيش اللبناني”، مستغرباً الإصرار على مهاجمة السرايا ومحاولة إحراقها، لأنها تتضمن جميع قيود وبيانات أهالي المدينة، ولن يعود ذلك بالنفع على أحد.
ويتحدث النمري عن حالة من الضيق يعيشها الناس، فهم وصلوا إلى مرحلة من اليأس. ينطلق أبو جهاد من تجربته الشخصية، فهو أب لستة أولاد، يعمل في بيع القهوة، ولديه طفلان يحتاجان علاجاً لمرض القلب، ليجزم أن أهالي المدينة والعمال المياومين غير قادرين على الالتزام بمندرجات الإقفال العام.
ويتوقع النمري أن تزداد نقمة الناس لأن “الجوع عمّ وانتشر”، ولم يعد بالإمكان الاستمرار بالوضع على ما هو عليه، لم يعُد يكفي الدخل لتأمين عشاء للعائلة، فالبطون “لم تعُد تشبع، ونعيش على القطارة”.
الفيروس حاضر دائماً
مما لا شك فيه، أن التجمعات الشعبية تحفز فيروس كورونا على الانتشار والحركة بين الناس، لكن هناك فيروساً (لقب لشاب اسمه محمد) آخر حاضرٌ في الساحة.
يتنقل الشاب البالغ من العمر 19 سنة ليحفز رفاقه على البقاء في الشارع. يسخر ابن الميناء من فكرة أن “الشبان يتلقون أوامر من جهات معينة”.
ويلفت أنه كان واحداً من مجموعة مؤلفة من 12 شاباً، كانوا يبيتون في ساحة الشهداء ويشاركون في جميع التحركات في العاصمة بيروت.
يشارك “فيروس” في الاحتجاجات العنيفة لأنه “لم يعد لديه شيء ليخسره”، فهو بعد أن نال شهادة البكالوريا، عجز عن تأمين مصاريف جامعته، لذلك توقفت مسيرته. يطمع فيروس بمغادرة لبنان في حال لم تُنتزع السلطة الحاكمة.
ويُبرّر “فيروس” لجوء الشبان إلى العنف والصدام مع القوى الأمنية في بعض الأحيان لأنهم “يحمون الطبقة السياسية الفاسدة، ويقفون سداً بوجه الجائعين الناقمين”. تحمّل الشاب الكثير من الوجع والتضييق بسبب مشاركته بالأعمال الثورية العنيفة، ولذلك فهو مصر على متابعة مشواره حتى النهاية.
أجيال عدة
على الرغم من طغيان الشباب في ساحة الاحتجاجات، إلا أن كبار السن لا يغيبون عنها. ويؤكد عبد السلام طالب (عسكري متقاعد) أنهم لم يخرجوا من الشارع حتى يعودوا، في حين يرفض طالب اتهام الشبان بالعنف والشغب لأنهم لم يقوموا بشيء خارج الإطار الاحتجاجي المشروع.
ويدعو إلى عودة الناس لملء الساحات من أجل تحقيق التغيير المنشود، جازماً أن هذه التحركات اعتيادية من أجل وضع حد للسياسات القائمة. ويضيف أن حضور عسكريين متقاعدين ضمن الساحة ضروري من أجل خفض حدة الصدام بين العسكر والمدنيين.
من جهته، يقول النحات عبد الرحمن محمد أن هدف هذه المعركة هو استعادة كرامة الشعب اللبناني، لأن السلطة الحاكمة لم تُعر أي اهتمام لأصوات الثائرين منذ انتفاضة 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019.
ويلفت إلى أن الساسة يتلهون في تقاسم الحصص، وتوزيع الحقائب الوزارية، فيما الناس جاعت، ولم يعُد بإمكانها تأمين احتياجاتها الأساسية.
ويعبر محمد عن غضبه من الحال التي وصل إليها لبنان، موضحاً أن كورونا شكلت حبل نجاة للطبقة السياسية في لبنان، لأن الخوف من الإصابة دفع عدداً كبيراً من الثائرين للخروج من الشارع.
التنسيق قائم
مع انطلاق انتفاضة 17 أكتوبر، بدأت طرابلس تلعب دور البوصلة في الحراك الشعبي على مختلف الساحات. يلفت الناشط علي الشيخ إلى أن قضية المواطن اللبناني واحدة من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب لذلك، فهو لا يتأخر عن المشاركة في أي تظاهرة شعبية. ويتحدث عن ارتباط بين الهم المعيشي الطرابلسي والهم اللبناني العام، حيث أصبح المواطن يعيش العوز والفقر.
ويشير إلى أنه سيعيّد الليلة عيد ميلاده الـ31 داخل الساحة، ولا يستبعد حصول صدامات لأن الثورة العميقة تحقق المطالب بطريقة سريعة.
يتضح أن مجموعة من العوامل اجتمعت لتسخين الساحة اللبنانية سياسياً وأمنياً، وجاء تمديد الإقفال العام ليضغط على الواقع الاقتصادي والمعيشي، حيث بات الناس بين خيارين الموت جوعاً أو على أبواب المستشفيات بسبب كورونا.
Experience the freedom you have always wanted in business, incorporate your new company offshore in Vanuatu today. Easy to do. Very profitable. More information available. #topcompanyformation.com