غُداة قتل يزيد بن معاوية للإمام الحسين بن علي في كربلاء عام ٦١ للهجرة، وبعد أن وصلَ الخبر، خرج الناعي يذيعُ في شوارعِ دار جده النبي يقول: “يا أهل المدينة، لقد قُتلَ الحسين بن علي”!. مثّلت الحادثة بذهن الكثيرين، حالة صراع بين الحق والباطل أو بين الخير والشر، وكما في كل جولة لها ذات المحامل، انتصرَ الحق وزهُق الباطل وكان الباطل زهوقاً وظفرَ الخير على الشر.. ثم وعلى وقع الهرج والمرج الذي نشبَ على الحكمِ الأموي كأحد تداعيات مَد اليَد على حُرم الرسول كانت النهايات أن أُطيح بحكم بنو سفيان.
لقد قُتلَ الحسين عام ٦١ للهجرة مظلوماً وحيداً، قتلهُ ثلّة أشرار من أنصارِ الباطل، ومن بعدها كرّت سبحة هذه الواقعة، إذ تمادى الحق على الباطلِ لكن سُرعان ما كان يُزهق، ولعلَّ حادثة قتل الجندي في الجيش اللبناني يوم أمس، رؤوف حسن يزبك، ابن بلدة نحلة البقاعية، ذات الـ٢٢ عاماً، على أيدي طغمة أشرار فاسدون منافقون مدّعو حق، واحدة من حوادث الظّلم والغدر والطّعن في الظهرِ وقتل أبناء الجلدة والوطن والمذهب والدّين، المتكرّرة من عصرِ الإمام الحسين، فهل يكون دم رؤوف سبباً في سقوطِ عروش أمراء الجريمة؟
لقد مُثلت حادثة قتل العسكري البريء يوم أمس وهو في بزتهِ العسكرية ما هو أبعد من حادثة قتل شاب يقومُ بواجبه الوطني مفوضاً من شعبه، لا بل مثلت غدراً وطعناً في الخاصرةِ من قِبَل مجرمين ما برحوا يتلطون خلف الشّعارات العشائرية السّامية، ذات الوقار والكرم والجود والزود عن الضعيف ونصرة المظلوم وما شاكل من شعاراتٍ تبين أنهم يحملونها فقط من أجلِ المتاجرة وإدعاء الشّرف والنُبل والكرامة، لكن في الحقيقةِ تبين أنهم لا يفرقون عن ممتهني الغدر بشيء.
فعلة يوم أمس التي غسلت العشائر، سيّما عشيرة آل جعفر الكريمة، اليد منها، بعد أن حاول أرباب المخدرات والسّرقة وعباد الحبوب وسلب الناس أموالهم تدنيس عشائرهم بها، هي خير دليل على خروجِ هؤلاء عن القاعدة والأصول والقيم والمبادئ، بل أن موقف عشيرة آل جعفر على لسانِ كبيرها “ياسين آل جعفر” هو إعلان صريح وواضح يؤكد بما لا لبث فيه، أن “ثلة القتلة” هم عبارة عن خوارج، خوارج العصر الحديث، الذين حاولوا بفعلتهم تدنيس عشائرهم.
لقد آلم العشائر كما أهل المنطقة، الكمن لجنود الجيش وهو يزاولون مهامهم، بل آلمهم أكثر، أن يواجه أبناء بعلبك الرصاص إلى الظهور بعد أن كانوا يوجهونه إلى صدور المُحتلين والمنتدبين والغزاة، لكن ومع وجود ثلّة القتلة هذه، باتَ ومع الأسف المنطق السّائد هو منطق “القتل في الظهرِ والطعن في الخاصرة” والفرار كطفار البراري المجرمين.
المطلوب اليوم من عشائرِ المنطقة وعائلاتها، الوقوف وقفة رجل واحد ضد من “يُمشرع” لأخذ منطقتهم صوب مواجهة مع الجيش اللُّبناني وصبغها بلبوس الفساد الذي خرجَ الإمام الحسين ليقاتله بالسيف، وكله بهدف تأمين تجارة الممنوعات وحماية المزارع المشبوهة. أما وبعد موقف عشيرة آل جعفر من نفضَ اليد من المعتدين، فيبدو أن الأمر باتَ واضحاً وضوح الشمس لدى العشائر والعائلات الأخرى، التي لا بُد لها من تمييز صاحب الحَق من مرتادِ الباطل.
كلام الشيخ ياسين خيرُ دليل على أصول العشائر، وتصرف أبناء منطقة بعلبك الواعي بعد الحادثة والمُستنكر لها، لهو أكبر دليل على خروج “ثلة القتلة” عن بيئاتهم التي طالما ادّعوا نصرتها لكنهم فروا فرار الأنذال وتلطّوا في الكهوف يوم كانت تنهمر الصواريخ على رؤوس أبناء المنطقة ويوم حشد أصحاب الرايات السّود جحافلهم على حدودِ البلدات والقرى، بل الانكأ أن البعض من هؤلاء باعوا أدوات الجريمة للإرهابيين وشاركوا في سفك دماء أهلهم، ما عراهم لا بل طبع رجساً على جبينهم.
قيلَ ذات مرّة، أن رجلاً يملكُ فرساً نادرة ذات شهرة في المدينة، فجاءه رجل يقالُ له ربيع يريد شراءها بأي ثمن فأبى صاحبها بيعها، وبعد عدّة محاولات، ولما يئس ربيع تنكر له في خارج المدينة ووقف في طريقِ صاحب الفرس متنكراً في زيِ الرجل المسكين العاجز عن المشي، فأشفق عليه صاحب الفرس ونزل ليحمله على فرسه، فلما تمكن ربيع من ظهر الفرس انطلقَ بها بعيداً عن صاحبها، ثم توقف ونزع اللّثام عن وجهه ونادى صاحب الفرس معلناً أنه ظفرَ بها بدون ثمن، فلما علم صاحب الفرس أنه غدر به قال له: أنت ربيع؟ قال: نعم أنا ربيع، قال: اسمع مني كلمة قبل أن تذهب، قال: قل، قال: لا تخبر النّاس بما حصل، قال: ولمَ؟ قال: لئلا تذهب المروءة بين الناس… فأخفوا يا أهل بعلبك ما صنعَ بعضكم، كي لا يصبحُ الغدر شيمة بين الناس.